لماذا نرتاح لشخص معين

الارتياح النفسي والعاطفي تجاه شخص معين دون غيره يعد من الظواهر النفسية والاجتماعية المعقدة التي تخضع لتفاعل عوامل متعددة تتداخل فيها الجوانب البيولوجية، النفسية، الاجتماعية، والثقافية. هذا الشعور بالراحة مع شخص محدد ينعكس على جودة العلاقة بين الأفراد ويؤثر بشكل مباشر على الصحة النفسية والعاطفية، ويُعتبر من العناصر الأساسية التي تُبنى عليها علاقات الصداقة، الحب، أو حتى الشراكات المهنية الناجحة. في هذا المقال، سنقوم باستعراض العوامل المتعددة التي تفسر لماذا يشعر الإنسان بالراحة مع بعض الأشخاص دون غيرهم، مع توسيع النقاش في الجوانب العلمية والاجتماعية التي تدعم هذه الظاهرة.

مفهوم الارتياح النفسي تجاه الآخرين

الارتياح النفسي هو حالة ذهنية يشعر فيها الفرد بالهدوء، الأمان، والقرب من الآخر. وهو يتجاوز مجرد التواصل الاجتماعي السطحي ليصل إلى مستوى أعمق من التفاهم العاطفي والتوافق النفسي. هذا الشعور يولد من خلال تجارب مشتركة، توافق في القيم والأفكار، بالإضافة إلى قدرة الشخص الآخر على الاستماع والتفهم.

العوامل البيولوجية وتأثيرها في الشعور بالراحة مع شخص معين

تلعب العوامل البيولوجية دورًا مهمًا في تحديد الأشخاص الذين نشعر بالراحة معهم. من أبرز هذه العوامل:

1. التوافق الكيميائي بين الأفراد

هناك أدلة تشير إلى أن الأنظمة العصبية والكيمياء الحيوية تؤثر على الانجذاب والراحة بين الأشخاص. فمثلاً، الهرمونات مثل الأوكسيتوسين، المعروف بهرمون “المودة”، يلعب دورًا رئيسيًا في تعزيز الروابط العاطفية والشعور بالأمان عند التفاعل مع شخص معين. كذلك، إفراز الدوبامين والسيروتونين في الدماغ عند وجود الشخص الآخر قد يخلق شعورًا بالسعادة والراحة.

2. التعبير الوجهي واللغة غير اللفظية

تستخدم أجسادنا إشارات غير لفظية كثيرة للتواصل، مثل تعابير الوجه، نبرة الصوت، ولغة الجسد. الأشخاص الذين يظهرون لغة جسد مريحة ومتسقة مع مشاعرهم يميلون لأن يكونوا أكثر قدرة على خلق جو من الراحة والثقة. الدماغ البشري يتفاعل إيجابياً مع هذه الإشارات غير اللفظية التي تعزز الانسجام العاطفي.

3. التشابه الجيني

تشير بعض الدراسات إلى أن البشر يميلون للارتياح للأشخاص الذين يحملون تشابهاً وراثياً معيناً، سواء من حيث العوامل المناعية أو الخصائص الجسدية، مما يعزز الانجذاب والراحة، وهو أمر مرتبط بتفسير مناخ التزاوج والاختيار التطوري.

العوامل النفسية في تكوين الشعور بالراحة مع شخص معين

تتداخل العوامل النفسية بشكل كبير في تكوين شعور الراحة، من أبرزها:

1. التوافق في القيم والاهتمامات

الإنسان بطبيعته يبحث عن من يفهمه ويشاركه أفكاره وقيمه. عندما يجد الفرد شخصاً يشبهه في التفكير أو يحمل قيمًا مماثلة، يصبح التواصل أسهل ويشعر بالاطمئنان تجاهه. هذا التوافق يقلل من الصراعات ويزيد من عمق العلاقة.

2. الثقة والأمان العاطفي

الثقة هي الركيزة الأساسية لأي علاقة ناجحة. الشعور بالراحة مع شخص معين يعني أن الفرد يشعر بالأمان عند التعبير عن ذاته الحقيقية بدون خوف من الحكم أو الرفض. هذا الأمان النفسي يولد من خلال الخبرات المتبادلة والصدق في التواصل.

3. القدرة على التعاطف والتفهم

الأشخاص الذين يمتلكون قدرة عالية على التعاطف والتفهم يساهمون بشكل كبير في خلق جو من الراحة النفسية. عندما يشعر الإنسان بأن الآخر يستمع إليه ويفهم مشاعره وتجارب حياته، ينمو شعور القرب والارتياح.

4. تجربة العلاقة السابقة

خبرات العلاقات السابقة تؤثر على توقعات الفرد من العلاقات الجديدة. فإذا كانت هناك تجارب إيجابية مع أشخاص يشبهون في صفاتهم من ناحية السلوك والتعامل، يميل الفرد لأن يشعر بالراحة مع أشخاص مشابهين لهم.

العوامل الاجتماعية والثقافية وتأثيرها على الشعور بالراحة مع الآخرين

1. الخلفية الثقافية والاجتماعية

التشابه في الخلفية الثقافية والاجتماعية يسهل التواصل ويوفر أساسًا مشتركًا من المعتقدات والعادات، مما يعزز الشعور بالراحة. الاختلافات الثقافية قد تتسبب أحيانًا في صعوبة فهم الطرف الآخر أو إثارة مشاعر عدم الأمان.

2. بيئة النشأة والتنشئة الاجتماعية

الأفراد الذين نشأوا في بيئات متشابهة اجتماعيًا أو جغرافيًا لديهم ميل أكبر للشعور بالراحة عند التقاء بعضهم البعض، نظراً لتشابه أساليب التفكير والسلوك.

3. التفاعل المستمر والتكرار

التفاعل المتكرر والمستمر مع شخص معين يعزز من الشعور بالراحة، حيث أن العلاقة تبني ذاكرة مشتركة من اللحظات الإيجابية والتجارب، مما يجعل الشعور بالألفة أكثر رسوخًا.

العلاقة بين الشخصية ونمط الارتياح

الشخصية تلعب دورًا جوهريًا في تحديد مدى قدرة الفرد على الشعور بالراحة مع أشخاص معينين. فمثلاً:

• الأشخاص الانطوائيون قد يفضلون العلاقات القليلة والعميقة مع أشخاص محددين يثقون بهم، لأنهم يجدون في ذلك راحة نفسية أكبر.

• الأشخاص الانبساطيون يميلون إلى الشعور بالراحة مع مجموعة أوسع من الناس بسبب طبيعتهم الاجتماعية والنشطة.

أثر الارتياح النفسي على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية

الشعور بالراحة مع شخص معين يساهم بشكل كبير في تعزيز الصحة النفسية. وجود علاقات داعمة ومريحة يقلل من مستويات التوتر والقلق ويزيد من الشعور بالانتماء، مما ينعكس إيجابيًا على جودة الحياة. كما أنه يفتح المجال أمام النمو العاطفي والذهني من خلال تبادل الخبرات والمشاعر بشكل آمن وصادق.

استراتيجيات لتعزيز الشعور بالراحة مع الآخرين

من الممكن العمل على تطوير مهارات تساعد في بناء علاقات مريحة مع الآخرين، منها:

• تحسين مهارات التواصل والاستماع الفعّال.

• تطوير الذكاء العاطفي لفهم مشاعر الآخرين بشكل أفضل.

• الانفتاح على تجارب جديدة وتقبل الاختلافات.

• بناء الثقة من خلال الصدق والشفافية في العلاقات.

جدول يوضح أهم العوامل المؤثرة في الشعور بالراحة مع شخص معين

الخلاصة

الراحة النفسية مع شخص معين هي نتيجة معقدة لتفاعل مجموعة من العوامل البيولوجية، النفسية، الاجتماعية والثقافية. التوافق الكيميائي، التشابه في القيم، الثقة، والتعاطف كلها عوامل تلعب دورًا رئيسيًا في خلق هذا الشعور. بالإضافة إلى ذلك، تلعب الشخصية والتجارب السابقة دورًا هامًا في تحديد الأشخاص الذين نشعر بالراحة تجاههم. هذه الراحة ليست فقط مؤشرًا على جودة العلاقة، بل هي أيضًا عامل مهم في تعزيز الصحة النفسية وبناء علاقات مستقرة ومستدامة. تطوير هذه العلاقات يتطلب وعيًا بالاحتياجات النفسية والاجتماعية، وسعيًا دائمًا لبناء جسور من الثقة والتفاهم بين الأفراد.

المراجع:

1. Aron, A., & Aron, E. N. (1997). Self-expansion motivation and including other in the self. In S. Duck (Ed.), Handbook of personal relationships (pp. 251-270). John Wiley & Sons.

2. Reis, H. T., & Shaver, P. (1988). Intimacy as an interpersonal process. In S. Duck (Ed.), Handbook of personal relationships (pp. 367-389). Wiley.